Saturday, February 18, 2017

الـ "آن" ككائن



-والآن؟


-الآن؟ انتهيتُ الآن من المرحلة الأولى للوحة آجنس، ينقصها مسخان فقط لتكتمل، ولسبب لا أعرفه لم أرسم دميتها كما كانت الدراسة الأولى للوحة، في آخر لحظة محوت دمية آجنس وقررت استبدالها بمسخين من مسوخي، وبعض الدعاسيق، وغيرت ألوان اللوحة كاملة بما يليق بالمسوخ والدعاسيق، الآن فقط أدركت أني لا أرسم المسوخ كما اعتقدت، لكنها تبصق وجه عالمي كاملا على عيني، ودون أن أدري.


-لا؛ أعني، الآن! الآن.. ماذا؟


-الآن؟ بعد أن رتبت البيت وغسلت بعض ملابسي؟ لا شيء، أتناول كوبا من القهوة، أدخن سيجارة، أستمع لأم كلثوم، ولا أفكر في شيء.


-ليس ذلك أيضًا، ما أعنيه.. لا أعرف كيف أقول هذا، لكن، ما أعنيه هو الـ "آن" الذي ينخر قلبك بلا سبب واضح، الـ "آن" كفعلٍ أو ككائن، لا كظرف.


-آه، سأخبرك بهذا.. قبل عدة أعوامٍ كنتُ كتلة حزنٍ، فقط كتلة حزن لا أكثر، وكنت أتصور نفسي بعد عدة أعوام -الآن- أعيش وحدي، في بيتٍ بعيد، وهادئ، وكنتُ أراني أجلس وحدي على الأرض، في يدٍ سيجارة وفي الأخرى كأس من الفودكا، وبداخلي يكبر حزني الأليف الذي اعتدته؛ هذا ما اعتقدت أني سأكونه حينها، ولأني عشتُ عمرًا من الغربة غير المبررة، وكنتُ أفكر أني لا أملك سببًا حقيقيًّا للغربةِ فأقطعه لتنتهي، فتمنيتُ سببًا، لأقطع عنها وهميتها، ولأقطع عني عدم أحقيتي فيها، فخلقت لي إلهًا، وعبدته، وصليت، ودعوت أن يمنحني غربةً كاملة، سفرًا كاملًا، وتيهًا محققًا، فلم يستجب، وفقدت إيماني مرةً أخرى، وبقيت الغربة، كإلهٍ يعلو عن الكفر والشك؛ كانت تكبر، تتقدس وتعلو، تبتلع طرقي كاملة، وتلتهم قلبي على مهلٍ، فأشرب دمي لأتجاهل حقيقتها الكاذبة، لا تتوقف، ولا أنسى. كنتُ غريبةً، وكنتُ أعتقد الغربةَ حزن، كنت غريبةً، وكنتُ أعتقد الغربة خوف، كنت غريبةً، وكنتُ أعتقد الغربةً وهن؛ غير أني كنتُ مخطئةً.. ولم أكن أريد أن أصدق ذلك. الآن.. الآن الذي تعنيه، هو أني حققت ذلك، أو تحقق بنفسه، عشت الغربة كاملة وحقيقيّة وقاسية؛ والآن الذي تعنيه، هو أني قبل قليل، كنت أجلس على الأرض، قبالة لوحة آجنس، في يد سيجارة وفي الأخرى كأس فودكا، في بيتٍ بعيد وهادئ، وحدي، غير أن الحزن الذي اعتقدت أنه سيكون هنا الآن ليس هنا، ربما سعدت لصحة نبوءتي، ربما أفتقد شيئًا لا أعرفه، لكني أستطيع الآن احتبار اكتمال الحقيقة كما كنت أختبر اكتمال الحلم، لا أعتقد أني يحق لي الحزن الآن، ولا أعتقد أن الـ "آن" الذي تعنيه هو ذاته ما أعنيه أنا الآن، لكن ربما ما كنت أراه قبل عدة أعوام، الامر معقد، لكن.. على كل حالٍ، أليس هذا ما أردت!؟ هو بعينه وقلبه، فما حجتي الآن! لا شيء..


-آه.. لا شيء!